قلما نجد في لبنان أو أي دولة أخرى منطقة مكتظة سكانيا ونظيفة بيئيا، فالعلاقة بين البيئة والتعداد السكاني هي علاقة مباشرة، فمع ازدياد أعداد السكان تعلو نسبة التلوّث، وهذا تحديدا ما اختبرته بلدة عرسال على الحدود اللبنانيّة السوريّة بعد توافد النازحين السوريين اليها على مدى الأعوام الستة الماضية.
مع بداية الحرب السورية في العام 2011، لجأ الى لبنان آلاف السوريين طالبين سقفا يأويهم، فاستقرّ غالبيتهم في مخيمات عشوائية استحدثتها الأمم المتحدة ومفوضية اللاجئين التي عملت على تقديم المساعدات اليهم لمحاولة تخفيف معاناتهم. لكن العشوائيّة والكثافة السكانيّة وسرعة الاحداث، أدّت الى خلق حالة بيئيّة وصحيّة غير مستقرّة وغير سليمة، وتحديدا في بلدة عرسال وعند أطرافها.
أثناء جولة على المخيّمات تلاحظ تشقّقا بـ"الشوادر" والخيم، وكأن الحرب لا تكفي لتمزيق حياة النازح، فتأتيه رياح العواصف لتكمل تمزيقها. هناك مع بداية فصل الشتاء لا مكان سوى للوحول، مما يجعل خطواتك مدروسة كي لا تقع فريسة حفرة عميقة تملؤك حتى النصف، وهذه كانت نصيحة خالد لنا. وخالد هو نازح سوري هرب من "المرّ" فوجد ما هو أمرّ ."تركتُ بيتي، مورد رزقي، وحتى جثة والدتي، واتجهت وعائلتي نحو الحدود اللبنانية السورية"، بهذه العبارات بدأ خالد قصة هروبه مع عائلته المكونة من 4 أطفال من سوريا، وأكمل "لم اكن اعلم ان الحياة في المخيمات بهذه القسوة، فهي لم ترحمنا، لا مواد أولية كافية، مياه الشرب غير صالحة، والازدحام السكاني مخيف". تحدث خالد بحرقة عن معاناتهم في المخيم، فبحسب روايته فقد غمرت المياه بالعام الماضي ما لا يقل عن 1000 خيمة، ففاضت الحفر الصحيّة، ما أدى الى انتشار الأمراض بشكل واسع اقلها وباء الكبد".
حال المخيمات شتاءً لا يختلف عن الصيف، فالهواء ملوث وأمراض الاسهال والجرب منتشرة كانتشار الذباب على الحلوى.
المياه الآسنة تختلط بالجوفية
على مدى 5 سنوات، تحاول المنظمات الدولية لملمة الأوضاع في المخيمات والبلدات التي رزحت تحت وطأة النزوح بخاصة المناطق الحدودية، وفي هذا الاطار، كشفت نائبة رئيس بلدية عرسال ريما كرنبي لـ"النشرة" ان "نسبة النزوح وصلت الى 120 الف نازح في عرسال، أي 3 اضعاف عدد السكان الذي يوازي 40 الف نسمة، وتجمّع كل هؤلاء على مساحة 10 كلم2"، لافتة الى ان "هذا الاكتظاظ السكاني انعكس على البيئة في البلدة بمختلف اشكالها".
ولطالما عانت بلدة عرسال من غياب شبكة تصريف مياه الصرف الصحي، لتأتي ازمة النزوح وتحوّل المشكلة الى كارثة بيئيّة وصحية، وفي هذا السياق، اوضحت كرنبي ان "تسرب المياه الآسنة الى المياه الجوفية أدى الى تلوثها بشكل كارثي"، كاشفة ان "المياه في عرسال كلها ملوثة، وقمنا السنة الماضية بفحص 23 بئرا وتبين ان المياه ملوثة جرثوميا وكميائيا".
كما ومع ازدياد عدد السكان داخل عرسال جرّاء النزوح، ازدادت كمية النفايات بخاصة الصلبة، وفي هذا الاطار، لفتت كرنبي الى ان "لدينا 45 طن يوميا من النفايات وجزء منها يتم تجميعه في مكان معين والجزء الآخر يتم حرقه، رغم ان البلدية اخذت قرارا بعدم حرق النفايات".
تغيّر النظام الايكولوجي
"حلت غالبية المخيمات في عرسال مكان الأراضي الزراعية، ما اثر على النظام الايكولوجي للبلدة"، هذا ما كشفه الناشط في عرسال مالك العرب لـ"النشرة"، مضيفا انه "تم تشييد نحو 50 مخيما في عرسال، يتراوح عدد الخيم فيه بين 10 و300 خيمة، واستُحدثت المخيمات على أراضٍ تتواجد عند اطراف البلدة وتضم كروما، ما أثر على المنتوجات الزراعية"، مشددا على ان هذه الأراضي ستحتاج الى إعادة تأهيل واستصلاح بعد مغادرة النازحين.
ولفت العرب الى ان "الإنتاج الأساسي في عرسال هو زراعة الكرز الموجود في الجرود وليس داخل البلدة"، كاشفا ان "الاحداث الأمنية وتواجد الارهابيين في هذه الجرود اثر اكثر من أزمة النزوح على الانتاج"، مشيرا الى ان الاثر البيئي كان كبيرا على البلدة التي تحتوي على نحو 5.3 مليون شجرة كرز، كما هناك عشرات الآلاف من الأشجار "يَبِسَتْ" منذ العام 2012. واشار الى الضغط الذي مورس على البنى التحتية، الكهرباء، المرافق الصحية والاقتصادية.
مواجهة "الازمات"
لمواجهة هذه التحديات، حاولت بلدية عرسال عقد اجتماعات عدة لحل هذه المشاكل بخاصة مشكلة الصرف الصحي، وتم تقديم مشروع متكامل في هذا السياق، الا أنّه لا يمكن تنفيذه قبل عامين، بالمقابل لم يتمّ تحضير أي حلّ بديل في هذه المرحلة مما يبقي الكارثة على حالها.
وبناء على كل ما سبق، يبدو ان عرسال استنفذت كل قواها وعناصرها التي تحافظ على بيئتها بعد العام السابع من الحرب السوريّة وتوافد النازحين الى الأراضي اللبنانية. فهل ستستعيد على الأقل بعضا من صحّتها البيئيّة بعد عودة النازحين الى سوريا؟.